سورة التوبة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


لما ذكر سبحانه المعذرين، ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة. فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} وهم: أرباب الزمانة، والهرم، والعمى، والعرج، ونحو ذلك، ثم ذكر العذر العارض، فقال: {وَلاَ على المرضى} والمراد بالمرضى: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً. وقيل: إنه يدخل في المرضى: الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال، لا إلى البدن فقال: {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي: ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم، مقيداً بقوله: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وأصل النصح: إخلاص العمل من الغش، ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول، أي أخلصه له. والنصح لله: الإيمان به، والعمل بشريعته. وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أوّلياً نصح عباده. ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد. وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه؛ ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به، أو ينهي عنه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» ثلاثاً، قالوا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وجملة: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} مقرّرة لمضمون ما سبق: أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل: أي طريق عقاب ومؤاخذة. و{من} مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ {المحسنين} موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً. أو يكون المراد: ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية. وجملة: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [النور: 61].
وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين، لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه، مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه»
قالوا: يارسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: «حبسهم العذر» وأخرجه أحمد، ومسلم، من حديث جابر.
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} والعطف على جملة {مَا عَلَى المحسنين} أي: ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل. ويجوز أن تكون عطفاً على الضعفاء: أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج. والمعنى: أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو، فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك. قيل: وجملة {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} في محل نصب على الحال من الكاف في {أتوك} بإضمار قد: أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد. وقيل: هي بدل من أتوك. وقيل: جملة معترضة بين الشرط والجزاء، والأوّل: أولى. وقوله: {تَوَلَّوْاْ} جواب {إذا} وجملة: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} في محل نصب على الحال: أي تولوا عنك لما قلت لهم: لا أجد ما أحملكم عليه، حال كونهم باكين، و{حَزَناً} منصوب على المصدرية، أو على العلية، أو الحالية، و{أَن لا يَجِدُواْ} مفعول له، وناصبه {حَزَناً} وقال الفراء: إن {لا} بمعنى ليس، أي حزناً أن ليس يجدوا. وقيل المعنى: حزناً على أن لا يجدوا. وقيل المعنى: حزناً أنهم لا يجدون ما ينفقون، لا عند أنفسهم ولا عندك.
ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال: {إِنَّمَا السبيل} أي: طريق العقوبة والمؤاخذة {عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَك} في التخلف عن الغزو، والحال أنهم {أَغْنِيَاء} أي: يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به، وجملة: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} مستأنفة كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء.
وقد تقدّم تفسير الخوالف قريباً. وجملة: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} معطوفة على {رَضُواْ} أي: سبب الاستئذان مع الغنى أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم {فَهُمُ} بسبب هذا الطبع {لاَّ يَعْلَمُونَ} ما فيه الربح لهم، حتى يختاروه على ما فيه الخسر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه، عن زيد ابن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة، فكنت أكتب ما أنزل عليه، فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: نزل من عند قوله: {عَفَا الله عَنكَ} إلى قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في المنافقين.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال: ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا لله ورسوله ولم يطيقوا الجهاد، فعذرهم الله وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين، ألم تسمع أن الله يقول: {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر} [النساء: 95]. فجعل الله للذين عذر من الضعفاء، وأولي الضرر، والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال: والله لأهل الإساءة {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ} الآية، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فأنزل الله عذرهم {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ} الآية.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن عبد الله بن مغفل، قال: إني لا أجد ارهط الذين ذكر الله {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب، قال: هم سبعة نفر من بني: عمر بن عوف سالم بن عمير، ومن بني: واقف حرميّ بن عمرو، ومن بني: مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى، ومن بني: المعلى سلمان بن صخر، ومن بني: حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة، ومن بني: سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني.
وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة.
واختلفوا في البعض، ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم؛ أن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، ثم ذكروا أسماءهم، وفيه، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة. قال: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن، قال: كان معقل بن يسار من البكائين الذين قال الله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس بن مالك، في قوله: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} قال: الماء والزاد.
وأخرج ابن المنذر، عن عليّ بن صالح، قال: حدّثني مشيخة من جهينة، قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان، فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إبراهيم بن أدهم، عمن حدّثه في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} قال: ما سألوه الدوابّ ما سألوه إلا النعال.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن بن صالح، في الآية قال: استحملوه النعال.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} قال: هي وما بعدها إلى قوله: {إِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} في المنافقين.


قوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} إخبار من الله سبحانه عن المنافقين المعتذرين بالباطل، بأنهم يعتذرون إلى المؤمنين إذا رجعوا من الغزو، وهذا كلام مستأنف، وإنما قال: {إِلَيْهِمُ} أي: إلى المعتذرين بالباطل، ولم يقل إلى المدينة؛ لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها. ثم أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يجيب به عليهم، فقال: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} فنهاهم أوّلا عن الاعتذار بالباطل، ثم علله بقوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم، كأنهم ادّعوا أنهم صادقون في اعتذارهم، لأن غرض المعتذر أن يصدّق فيما يعتذر به، فإذا عرف أنه لا يصدّق ترك الاعتذار، وجملة {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} تعليلية للتي قبلها: أي لا يقع منا تصديق لكم لأن الله قد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم، وإنما خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب عليهم، فقال: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين، لأنه صلى الله عليه وسلم رأسهم، والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير في قوله: {إِلَيْكُمْ} هو الرسول صلى الله عليه وسلم على التأويل المشهور في مثل هذا.
قوله: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أي: ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشرّ أم تبقون عليه؟. وقوله: {وَرَسُولُهُ} معطوف على الاسم الشريف، ووسط مفعول الرؤية إيذانا، بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شرّ هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة، وفي جملة: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب} إلى آخرها تخويف شديد، لما هي مشتملة عليه من التهديد، ولا سيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر، لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به، وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه.
ثم ذكر أن هؤلاءالمعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو، وغرضهم من هذا التأكيد هو: أن يعرض المؤمنون عنهم، فلا يوبخونهم ولا يؤاخذونهم بالتخلف، ويظهرون الرضا عنهم، كما يفيده ذكر الرضا من بعد، وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدلّ عليه، وهو اعتذارهم الباطل، وأمر المؤمنين بالإعراض عنهم المراد به: تركهم والمهاجرة لهم. لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم، كما تفيده جملة {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} الواقعة علة للأمر بالإعراض. والمعنى: أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة، فكأنها قد صيرت ذواتهم رجساً، أو أنهم ذوو رجس: أي ذوو أعمال قبيحة، ومثله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير، والتحذير من الشرّ، فليس لهم إلا الترك. وقوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} من تمام التعليل؛ فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء، ليلاً أو نهاراً.
وقد أوى فلان إلى منزله، يأوي أوياً وإيواء. و{جَزَاء} منصوب على المصدرية، أو على العلية، والباء في {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} للسببية، وجملة: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ} بدل مما تقدّم. وحذف هنا المحلوف به لكونه معلوماً مما سبق، والمحلوف عليه لمثل ما تقدّم، وبين سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم، ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء المعتذرين بالباطل، فقال: {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} كما هو مطلوبهم مساعدة لهم {فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا على هؤلاء الفسقة العصاة، فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك، بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتدّ به، ولا مفيد لهم. والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم، نهي المؤمنين عن ذلك؛ لأن الرضا على من لا يرضى الله عليه مما لا يفعله مؤمن.
قوله: {الأعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} لما ذكر الله سبحانه أحوال المنافقين بالمدينة، ذكر حال من كان خارجاً عنها من الأعراب، وبين أن كفرهم ونفاقهم أشدّ من كفر غيرهم ومن نفاق غيرهم، لأنهم أقسى قلباً وأغلظ طبعاً وأجفى قولاً، وأبعد عن سماع كتب الله، وما جاءت به رسله. والأعراب: هم من سكن البوادي بخلاف العرب، فإنه عام لهذا النوع من بني آدم، سواء سكنوا البوادي أو القرى، هكذا قال أهل اللغة، ولهذا قال سيبويه: إن الأعراب صيغة جمع وليست بصيغة جمع العرب. قال النيسابوري: قال أهل اللغة: رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً، وجمعه عرب، كالمجوسيّ والمجوس، واليهوديّ واليهود؛ فالأعرابي إذا قيل له: يا عربي، فرح، وإذا قيل للعربي: يا أعرابي غضب، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي، ومن نزل البادية فهو أعرابي، ولهذا لا يجوز أن يقال لللمهاجرين والأنصار أعراب، وإنما هم عرب. قال: قيل: إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشئوا بالعرب، وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم، وكل من يسكن جزيرة العرب، وينطق بلسانهم فهو منهم. وقيل: لأن ألسنتهم معربة، عما في ضمائرهم، ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة. انتهى. {وَأَجْدَرُ} معطوف على {أشد} ومعناه: أخلق، يقال: فلان جدير بكذا: أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع: جدر، أو جديرون، وأصله من جدر الحائط، وهو رفعه بالبناء.
والمعنى: أنهم أحق وأخلق بألا يعلموا حدود ما أنزل الله من الشرائع والأحكام، لبعدهم عن مواطن الأنبياء، وديار التنزيل {والله عَلِيمٌ} بأحوال مخلوقاته على العموم. وهؤلاء منهم: {حَكِيمٌ} فيما يجازيهم به من خير وشرّ.
قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} هذا تنويع لجنس إلى نوعين، الأوّل: هؤلاء، والثاني: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله} والمغرم: الغرامة والخسران، وهو ثاني مفعولي يتخذ، لأنه بمعنى الجُعل، والمعنى: اعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران، وأصل الغرم والغرامة، ما ينفقه الرجل وليس بلازم له في اعتقاده، ولكنه ينفقه للرياء والتقية. وقيل: أصل الغرم: اللزوم، كأنه اعتقد أنه يلزمه لأمر خارج لا تنبعث له النفس. و{الدوائر} جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، وأصلها: ما يحيط بالشيء، ودوائر الزمان: نوبه وتصاريفه، ودوله، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه، ثم دعا سبحانه عليهم بقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} وجعل ما دعا به عليهم مماثلاً لما أرادوه بالمسلمين، و{السوء} بالفتح عند جمهور القراء مصدر أضيفت إليه الدائرة للملابسة، كقولك رجل صدق. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، بضم السين، وهو المكروه. قال الأخفش: أي: عليهم دائرة الهزيمة والشرّ.
وقال الفراء: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء}: العذاب والبلاء. قال: والسوء بالفتح مصدر سؤته سوءاً ومساءة، وبالضم اسم لا مصدر، وهو كقولك: دائرة البلاء والمكروه {والله سَمِيعٌ} لما يقولونه {عَلِيمٌ} بما يضمرونه.
قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} هذا النوع الثاني من أنواع الأعراب كما تقدّم: أي: يصدّق بهما {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} أي: يجعل ما ينفقه في سبيل الله {قربات} وهي: جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله سبحانه، تقول منه قربت لله قرباناً، والجمع: قرب وقربات. والمعنى: أنه يجعل ما ينفقه سبباً لحصول القربات {عِندَ الله} وسبباً ل {صلوات الرسول} أي: لدعوات الرسول لهم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين، ومنه قوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقرّباً إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه، فقال: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} فأخبر سبحانه بقبولها خبراً مؤكداً باسمية الجملة، وحرفي التنبيه والتحقيق، وفي هذا من التطييب لخواطرهم، والتطمين لقلوبهم ما لا يقادر قدره، مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرماً، والتوبيخ له بأبلغ وجه، والضمير في {إنها} راجع إلى {ما} في {ما ينفق} وتأنيثه باعتبار الخبر.
وقرأ نافع، في رواية عنه {قُربة} بضم الراء، وقرأ الباقون: بسكونها تخفيفاً، ثم فسر سبحانه القربة بقوله: {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ} والسين لتحقيق الوعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} قال: أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالاً، وفي قوله: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، قال للمؤمنين: «لا تكلموهم ولا تجالسوهم»، فأعرضوا عنهم كما أمر الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} قال: لتجاوزوا عنهم.
وأخرج أبو الشيخ، عنه، في قوله: {الأعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} قال: من منافقي المدينة {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} يعني: الفرائض، وما أمر به من الجهاد.
وأخرج أبو الشيخ، عن الكلبي، أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن» وإسناد أحمد هكذا: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدّثنا سفيان عن أبي موسى، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره. قال في التقريب: وأبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة، ووهم من قال إنه إسرائيل بن موسى، وقال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
وأخرج أبو داود، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قرباً إلا ازداد من الله بعداً».
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} قال: يعني بالمغرم أنه لا يرجو له ثواباً عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي من يعطي من الصدقات كرهاً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} الهلكات.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في الآية قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء على أن يغزوا ويحاربوا، ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرماً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله} قال: هم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قال الله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن معقل، قال: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وصلوات الرسول} يعني: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم.


لما ذكر سبحانه أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة. وأن منهم التابعين لهم.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ: {والأنصار} بالرفع على {والسابقون} وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجرّ. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهم يدخلون في قوله: {والسابقون} وفي الآية تفضيل السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين صلوا القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان. وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي، أو أهل بدر في قول محمد بن كعب، وعطاء بن يسار، ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها، قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون، ثم البدريون؛ ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
قوله: {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه {الذين اتبعوهم} محذوف الواو وصفاً للأنصار على قراءته برفع الأنصار، فراجعه في ذلك زيد بن ثابت، فسأل أبي بن كعب فصدّق زيداً، فرجع عمر عن القراءة المذكورة كما رواه أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، ومعنى {الذين اتبعوهم بإحسان}: الذين اتبعوا السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وليس المراد بهم التابعين اصطلاحاً، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم من جملة من يدخل تحت الآية، فتكون {من} في قوله: {مِنَ المهاجرين} على هذا للتبعيض، وقيل: إنها للبيان، فيتناول المدح جميع الصحابة، ويكون المراد بالتابعين: من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة. وقوله: {بإحسان} قيد للتابعين: أي والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأوّلين. قوله: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} خبر للمبتدأ وما عطف عليه، ومعنى رضاه سبحانه عنهم: أنه قبل طاعاتهم وتجاوز عنهم، ولم يسخط عليهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما أعطاهم من فضله، ومع رضاه عنهم فقد {أَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} في الدار الآخرة. وقرأ ابن كثير {تجري من تحتها الأنهار} بزيادة {من}. وقرأ الباقون بحذفها والنصب على الظرفية، وقد تقدّم تفسير جري الأنهار من تحت الجنات، وتفسير الخلود والفوز.
قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الأعراب منافقون} هذا عود إلى شرح أحوال المنافقين من أهل المدينة، ومن يقرب منها من الأعراب. {وممن حولكم} خبر مقدّم، و{من الأعراب} بيان، وهو في محل نصب على الحال، {ومنافقون} هو المبتدأ.
وقيل: وهؤلاء الذين هم حول المدينة من المنافقين هم: جهينة ومزينة، وأشجع، وغفار، وجملة: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق} معطوفة على الجملة الأولى، عطف جملة على جملة. وقيل: إن من أهل المدينة عطف على الخبر في الجملة الأولى، فعلى الأول: يكون المبتدأ مقدّراً: أي ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، وعلى الثاني: يكون التقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا، ولكون جملة {مردوا على النفاق} مستأنفة لا محل لها، وأصل مرد وتمرّد اللين والملاسة والتجرّد، فكأنهم تجرّدوا للنفاق، ومنه: غصن أمرد: لا ورق عليه، وفرس أمرد: لا شعر فيه. وغلام أمرد: لا شعر بوجهه، وأرض مرداء: لا نبات فيها، وصرح ممرّد: مجرّد؛ فالمعنى: أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه. قال ابن زيد: معناه لجوا فيه وأتوا غيره، وجملة: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} مبينة للجملة الأولى، وهي مردوا على النفاق: أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً، ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف سائر المؤمنين؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة، فإن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم، وجملة: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} مقرّرة لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه، على وجه يخفى على البشر، ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى، وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر. ثم توعدهم سبحانه فقال: {سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} قيل: المراد بالمرّتين: عذاب الدنيا بالقتل والسبي، وعذاب الآخرة، وقيل: الفضيحة بانكشاف نفاقهم، والعذاب في الآخرة؛ وقيل: المصائب في أموالهم وأولادهم، وعذاب القبر. وقيل: غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه. والظاهر أن هذا العذاب المكرّر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب، وأنهم يعذبون مرّة بعد مرّة، ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة، وهو المراد بقوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} ومن قال: إن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة، قال معنى قوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أنهم يردّون بعد عذابهم في النار، كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها؛ أو أنهم يعذبون في النار عذاباً خاصاً بهم دون سائر الكفار، ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار.
ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال: {وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} وهو معطوف على قوله: {منافقون}: أي وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة قوم {آخرون} ويجوز أن يكون آخرون مبتدأ، واعترفوا بذنوبهم صفته، و{خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} خبره، والمعنى: أن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو لغير عذر مسوّغ للتخلف، ثم ندموا على ذلك، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون، بل تابوا واعترفوا بالذنب، ورجوا أن يتوب الله عليهم.
والمراد بالعمل الصالح: ما تقدّم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام، وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن. والمراد بالعمل السيء: هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيء عملاً صالحاً، وهو الاعتراف به والتوبة عنه، وأصل الاعتراف: الإقرار بالشيء. ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ومعنى الخلط: أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء باللبن، واللبن بالماء. ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء، كقولك: بعت الشاة شاة ودرهما: أي بدرهم، وفي قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة، أو أن مقدّمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة، وحرف الترجي وهو {عسى} هو في كلام الله سبحانه يفيد تحقق الوقوع؛ لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: يغفر الذنوب ويتفضل على عباده.
قوله: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها، فقيل: هي صدقة الفرض، وقيل: هي مخصوصة بهذه الطائفة المعترفة بذنوبها؛ لأنهم بعد التوبة عليهم عرضوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، و{من} للتبعيض على التفسيرين، والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة، والصدقة مأخوذة من الصدق، إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه. قوله: {تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} الضمير في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم: أي تطهرهم وتزكيهم يا محمد بما تأخذه من الصدقة منهم. وقيل: الضمير في {تطهرهم} للصدقة: أي تطهرهم هذه الصدقة المأخوذة منهم، والضمير في {تزكيهم} للنبي صلى الله عليه وسلم: أي تزكيهم يا محمد بالصدقة المأخوذة، والأوّل: أولى لما في الثاني من الاختلاف في الضميرين في الفعلين المتعاطفين؛ وعلى الأوّل: فالفعلان منتصبان على الحال، وعلى الثاني: فالفعل الأوّل صفة لصدقة، والثاني: حال منه صلى الله عليه وسلم. ومعنى التطهير: إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب، ومعنى التزكية: المبالغة في التطهير. قال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم: أي فإنك يا محمد تطهرهم وتزكيهم بها على القطع والاستئناف، ويجوز الجزم على جواب الأمر. والمعنى: أن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم.
وقد قرأ الحسن: بجزم {تطهرهم}. وعلى هذه القراءة فيكون {وَتُزَكّيهِمْ} على تقدير مبتدأ: أي وأنت تزكيهم بها. قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم، قال النحاس.
وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه، أن الصلاة في كلام العرب: الدعاء، ثم علل سبحانه أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بالصلاة على من يأخذ منه الصدقة فقال: {إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} قرأ حفص، وحمزة، والكسائي {صلاتك} بالتوحيد. وقرأ الباقون بالجمع، والسكن: ما تسكن: إليه النفس وتطمئن به.
قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} لما تاب الله سبحانه على هؤلاء المذكورين سابقاً. قال الله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي: غير التائبين، أو التائبون قبل أن يتوب الله عليهم ويقبل صدقاتهم {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} لاستغنائه عن طاعة المطيعين، وعدم مبالاته بمعصية العاصين. وقرئ: {ألم تعلموا} بالفوقية، وهو إما خطاب للتائبين، أو لجماعة من المؤمنين، ومعنى: {وَيَأْخُذُ الصدقات}: أي يتقبلها منهم، وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه بعد أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأخذها تشريف عظيم لهذه الطاعة، ولمن فعلها. وقوله: {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} معطوف على قوله: {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} مع تضمنه لتأكيد ما اشتمل عليه المعطوف عليه: أي: أن هذا شأنه سبحانه. وفي صيغة المبالغة في التواب، وفي الرحيم مع توسيط ضمير الفصل. والتأكيد من التبشير لعباده والترغيب لهم ما لا يخفى.
قوله: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} فيه تخويف وتهديد: أي إن عملكم لا يخفى على الله، ولا على رسوله ولا على المؤمنين، فسارعوا إلى أعمال الخير، وأخلصوا أعمالكم لله عزّ وجلّ، وفيه أيضاً ترغيب وتنشيط، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء كان خيراً أو شرّاً رغب إلى أعمال الخير، وتجنب أعمال الشرّ، وما أحسن قول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
والمراد بالرؤية هنا: العلم بما يصدر منهم من الأعمال، ثم جاء سبحانه بوعيد شديد فقال: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} أي: وستردّون بعد الموت إلى الله سبحانه، الذي يعلم ما تسرّونه وما تعلنونه، وما تخفونه وما تبدونه. وفي تقديم الغيب على الشهادة: إشعار بسعة علمه عزّ وجلّ، وأنه لا يخفى عليه شيء، ويستوي عنده كل معلوم. ثم ذكر سبحانه ما سيكون عقب ردّهم إليه فقال: {فَيُنَبّئُكُمْ} أي: يخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويتفضل على من يشاء من عباده.
قوله: {وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} ذكر سبحانه ثلاثة أقسام في المتخلفين: الأوّل: المنافقون الذين مردوا على النفاق، والثاني: التائبون المعترفون بذنوبهم، الثالث: الذين بقي أمرهم موقوفاً في تلك الحال، وهم المرجون لأمر الله، من أرجيته وأرجأته: إذا أخرته. قرأ حمزة والكسائي، ونافع وحفص {مُرْجَوْنَ} بالواو من غير همزة.
وقرأ الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. والمعنى: أنهم مؤخرون في تلك الحال، لا يقطع لهم بالتوبة لاو بعدمها، بل هم على ما يتبين من أمر الله سبحانه في شأنهم {إما يُعَذّبْهُمُ} إن بقوا على ما هم عليه، ولم يتوبوا {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن تابوا توبة صحيحة وأخلصوا إخلاصاً تاماً، والجملة في محل نصب على الحال، والتقدير {وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} حال كونهم، إما معذبين، وإما متوباً عليهم {والله عَلِيمٌ} بأحوالهم {حَكِيمٌ} فيما يفعله بهم من خير أو شرّ.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وأبو نعيم في المعرفة، عن أبي موسى، أنه سئل عن قوله: {والسابقون الأولون} فقال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن سعيد بن المسيب، مثله.
وأخرج ابن المنذر، وأبو نعيم، عن الحسن، ومحمد بن سيرين، مثله أيضاً.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال: هم أبو بكر، وعمر، وعليّ، وسلمان، وعمار بن ياسر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن الشعبي قال: هم من أدرك بيعة الرضوان.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} قال: التابعون.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، قال: هم من بقي من أهل الإسلام، إلى أن تقوم الساعة.
وأخرج أبو الشيخ، وابن عساكر، عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أريد الفتن، قال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أيّ موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرءون قوله تعالى: {والسابقون الأولون} الآية أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه فيهم. قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان. يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليّ ابن كعب.
وأخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، والقسم ومكحول، وعبدة بن أبي لبابة، وحسان بن عطية، أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لما أنزلت هذه الآية: {والسابقون الأولون} إلى قوله: {وَرَضُواْ عَنْهُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا لأمتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الأعراب} الآية، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيباً، فقال: «قم يا فلان فاخرج، فإنك منافق»، اخرج يا فلان، فإنك منافق، فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم، ولم يكن عمر بن الخطاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر، وظنوا أنه قد علم بأمرهم، فدخل عمر المسجد، فإذا الناس لم ينصرفوا، فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم، فهو: العذاب الأوّل، والعذاب الثاني: عذاب القبر.
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الأعراب} قال: جهينة ومزينة، وأشجع وأسلم وغفار.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} قال: أقاموا عليه، ولم يتوبوا كما تاب آخرون.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في الآية قال: ماتوا عليه: عبد الله بن أبيّ، وأبو عامر الراهب، والجدّ بن قيس.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} قال: بالجوع والقتل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي مالك، قال: بالجوع وعذاب القبر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عن قتادة قال: عذاب في القبر، وعذاب في النار.
وقد روى عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين، والظاهر ما قدّمنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، في قوله: {وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا} قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رجع عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تطلقهم وتعذرهم، قال: وأنا أقسم بالله، لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فنزلت: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} و{عسى} من الله واجب، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا، واستغفر لنا، قال: «ما أمرت أن آخذ أموالكم»، فأنزل الله عزّ وجل: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ} يقول: استغفر لهم {إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} يقول: رحمة لهم، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم، وكانوا ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فأرجئوا سنة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم؟ فأنزل الله عزّ وجل: {لَقَدْ تَابَ الله على النبى} إلى قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} إلى قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} يعني: إن استقاموا.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، مثله سواء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن مجاهد في قوله: {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} قال: هو أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال، وأشار إلى حلقه بأن محمداً يذبحكم إن نزلتم على حكمه، والقصة مذكورة في كتب السير.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا} قال: غزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَآخَرَ سَيِّئاً} قال: تخلفهم عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} قال: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها {إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} قال: رحمة لهم.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قال: «اللهم صلّ على آل فلان»، فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} قال: هذا وعيد من الله عزّ وجلّ.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في الشعب، وابن أبي الدنيا، والضياء في المختارة، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة، لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان».
وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة، في قوله: {وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في الآية قال: هم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ} يقول: يميتهم على معصية {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فأرجأ أمرهم ثم نسخها فقال: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ}

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12